الثلاثاء، 19 فبراير 2013

أمي كذبت عليّ

من روائع مصطفى العقاد 




أمي كذبت عليّ!!!!!!
.
.

ليس دائما :أمي تقول الحقيقة !! ثماني مرات : كذبت أمي عليّ !!!.....
تبدأ القصة عند ولادتي ، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا .. و إذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا من الأرز لنأكله و يسد جوعنا : كانت أمي تعطيني نصيبها .. وبينما كانت تحول الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول : يا ولدي تناول هذا الأرز ، فأنا لست جائعة .. وكانت هذه كذبتها الأولى
و عندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شؤون المنزل و تذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا ، و كان عندها أمل أن أتناول سمكة قد تساعدني على أن أتغذى و أنمو ، وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين ، أسرعت إلى البيت و أعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي فبدأت انا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا ، وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك ، فاهتز قلبي لذلك وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها ،فأعادتها أمي فورا وقالت:يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا ،ألا تعرف أني لا أحب السمك .. وكانت هذه كذبتها الثانية .....
و عندما كبرت أنا كان لا بد أن ألتحق بالمدرسة ،ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات الدراسة ، ذهبت أمي إلى السوق
واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل و تعرض الملابس على السيدات ، وفي ليلة شتاء ممطرة ،تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة ، ووجدتها تحمل البضائع و تطرق أبواب البيوت ، فناديتها :أمي ، هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر و البرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح، فابتسمت أمي وقالت لي : يا ولدي .. أنا لست مرهقة .. وكانت هذه كذبتها الثالثة ......
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة ، أصرت أمي على الذهاب معي ، ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة ، وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة و دفء وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى ، ووجدت معها كوبا  فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي ، فشربته من شدة العطش حتى ارتويت ،بالرغم من أن احتضان أمي لي كان أكثر بردا وسلاما ، وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه،فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها :اشربي يا أمي ،فردت :يا ولدي اشرب أنت ،أنا لست عطشانة .. وكانت هذه كذبتها الرابعة ....
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة ،وأصبحت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها و يجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات ،فأصبحت     الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع ،كان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا ، وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ،نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفق علينا فهي لا زالت صغيرة و لكن أمي رفضت الزواج قائلة : أنا لست بحاجة إلى الحب .. وكانت هذه كذبتها الخامسة 
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة ،حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة ، واعتقدت أن هذا هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل ، وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل ،فكانت تفرش فرشا في السوق و تبيع الخضراوات كل صباح،فلما رفضت ترك العمل خصصت لها جزءا من راتبي ، فرفضت أن تأخذه قائلة : ياولدي احتفظ بمالك ،إن معي من المال ما يكفيني .. وكانت هذه كذبتها السادسة .....
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجستير ، وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ،ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا ،فشعرت بسعادة بالغة وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة ، وبعدما سافرت وهيأت الظروف ،اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي ولكنها لم تحب أن تضايقني وقالت : ياولدي .. أنا لست معتادة على المعيشة المترفة ..وكانت هذه كذبتها السابعة .....
كبرت أمي و أصبحت في سن الشيخوخة و أصابها مرض السرطان اللعين ،وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ،ولكن ماذا أفعل فبيني و بين أمي الحبيبة بلاد ،تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا ، فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية ، عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي و لكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا و ضعيفة ، ليست أمي التي أعرفها ، انهمرت الدموع من عيني و لكن أمي حاولت أن تواسيني فقالت : لا تبك يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم ... و كانت هذه كذبتها الثامنة ...
و بعدما قالت لي ذلك ، أغلقت عينيها  فلم تفتحهما بعدها أبدا ....
إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته : حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها .... و إلى كل من فقد أمه الحبيبة : تذكر دائما كم تعبت من أجلك فلا تنساها    من دعائك رحمك الله .....
من روائـــــــــــــــــــــع مصطفى العقاد  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق